المنامة / بنا /
أكدت المهندسة المعماريّة فاطِمة عبدعلي من إدارة التّراث الوطنيّ بهيئة البحرين للثّقافة والآثار أنّ الصّناعات الثّقافيّة ترتكزُ على المضمون والثّراء الإنسانيّ الذي تنفردُ به الثّقافات حول العالم، وبينت أن مملكة البحرين بتاريخها وعراقتها تمتلك هذا التّنوّع والاستثنائيّة، فالرّهانَ على الإرث غير المادّيّ يمثّل حراكًا قويًّا وعميقًا يُساهمُ في التّنميةِ والازدهارِ الاقتصاديّ، كما سيحقّق مردوداتٍ وطنيّةٍ وعالميّةٍ.
جاء ذلك خلال جلسات الملتقى الوطنيّ الثّاني للتّراث الثّقافيّ غير المادّيّ التي انعقدت منذ 21 وحتّى 23 سبتمبر الجاري.
وفي تصريح خاص لوكالة أنباء البحرين أوضحت المهندسة عبدعلي أن الحِرَف التّقليديّة قد شكلت مضمونًا ثقافيًّا أدرجته هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار في سياقِ مناقشاتها بالملتقى، وأشارت إليها باعتبارها تراثًا إنسانيًّا عميقًا، واستثمارًا ثقافيًّا يُعوّل عليه لتشكيل بنى تحتيّة للصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة في مملكةِ البحرين، في تأكيدٍ على أنّ هذه الحصائل والنّتاجات الإنسانيّة لها خصوصيّة ثقافيّة ذات مردودٍ إنسانيّ واجتماعيّ واقتصاديّ.
وأردفت المهندسة أن هذه الحِرَف والصّناعات التّقليديّة تجسّد ركائز حقيقيّة للصّناعات الثّقافيّة في المنطقة، وأنّ الرّهان على استدامتِها وتكريسها لأجلِ صناعات إبداعيّة سيسهمُ في حفظِ الممارسات الإنسانيّة بثرائها وتنوّعها، وقالت: (ليست الذّاكرةُ وحدَها هي حافظةٌ للتّاريخ، بل وهذه الممارسات والحِرَف أيضًا التي تستدرجُ الثّقافة والتّاريخ، وتمثّل تعبيرات ثقافيّة أصيلة ورمزيّات للهويّةِ المحلّيّة)، مشيرةً: (ما نُراهنُ عليه في الثّقافةِ ليس الحفظ والتّوثيق فحسب، بل رهانُنا على مستقبلِ الصّناعاتِ والحِرَف التي نكرّس كلّ المساعي من أجلِ أن تكونَ شاهدًا تاريخيًّا لا يُمحَى وهويّة وطنيّةً تلهمُ مدننا بما تُنتُج وتمنح. ولأنّنا نؤمن بمسؤوليّتنا من أجلِ نقلِ هذا الإرث الجماليّ وملامحِه للأجيالِ التي تنتمي إليه، لا بدّ أنّ نحرّكَ تلكَ الذّاكرة وأن نتركَ لهذا الإرث أن يتجذّرَ في صناعاتنا ويتفّوق باستثنائيّته واستدامته).
وبيّنت المهندسة عبدعلي أنّ الحِرَف والصّناعات التّقليديّة لم تكن تنحصرُ في المفاهيم العمليّة والمهنيّة فحسب، بل لها أبعادٌ أعمقُ من ذلكَ، ومضمونها يمنحُ دلالات اجتماعيّة وثقافيّة وتاريخيّة، موضّحةً أنّ قرى ومدن البحرين عبر التّاريخ قد جسّدت حاضنات إنسانيّة لتلكَ الدّلالات، وشكّلت بيئاتها المعيشيّة مواطن لنشوء وازدهار الحِرَف، قائلةً: (اتّصلت الحِرَف الشّعبيّة والصّناعات التّقليديّة تاريخيًّا بالإنتاج الثّقافيّ والتّاريخيّ الذي تنفردُ به مواقع ومناطق معيّنة، تبعًا: للممارسات الاجتماعيّة والإنسانيّة، جغرافيّة تلكَ المناطق، المؤثّرات التّاريخيّة عليها، المُعتَقدات، الفنون المهنيّة والحِرَفيّة التي تنفردُ بها جماعات بعينها، بالإضافة إلى توافرِ الموادّ الأصليّة، الاهتمامات المجتمعيّة والعوامل الاقتصاديّة وغيرها. كلّ تلكَ المُعطيات أدّت في حصيلتها إلى نتاجاتٍ إنسانيّة تاريخيّة، ارتبَطَت بتلكَ المواقع، والتي في غالبيتها هي مواقع تاريخيّة، تراثيّة وأثريّة)، ومن أمثلةِ ذلك: ازدهارِ صناعةِ الفخّار في منطقةِ عالي، وصناعةِ السّلال ومنتوجات النّخيل في كرباباد والقرى الزّراعيّة في المناطق الشّماليّة، النّجارة وصناعة السّفن في المحرّق والنّعيم والمناطق ذات البيئة السّاحليّة، فيما امتدّت صناعة النّسيج سابقًا في القرى مثل بني جمرة وأبو صيبع ومقابة وغيرها. وقد أسهمَ هذا التّنوّع في الممارسات والخصوصيّة لكلّ منها في تكوين منظومةٍ اقتصاديّة وإنتاجيّة متكاملة في المنطقة.
وفي تركيزٍ على صناعةِ النّسيجِ التي كانت أحد مواضيع الملتقى الوطنيّ الثّانيّ للتّراث الثّقافيّ غير المادّيّ، أشارت فاطِمة عبدعلي إلى أنّ هذه الحِرفة قد جسّدت تاريخًا عريقًا للمنطقة، وأنّ التّحوّلات الاقتصاديّة والعمرانيّة وتبدّل النّمط المعيشيّ قد ساهمَ في تراجعها، حيث تُشير بعض الإحصائيّات إلى أنّ المنطقة كانت تضمّ مئات المصانع، التي تراجعت حتّى 50 مصنعًا في العام 1951م، ووصلت إلى 13 مصنعًا خلال ثمانينيّات القرن الماضي، ثمّ انحصرت في مصنعٍ وحيدٍ مؤخّرًا، وهو ما يمثّل تلويحة الأملِ الأخيرةِ في المنطقة. من جهتها علّقت المهندسة فاطِمة عبدعليّ: (مشروعُ مصنعُ بني جمرة الذي تشتغلُ عليه هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار هو إحياءٌ لهذا الإرثِ واستعادةٌ لهذه الممارسة ليس باعتبارها ذاكرةً تاريخيّةً فقط، وإنّما هويّةٌ إنسانيّةٌ تتداخلُ بمضمونها في الحياةِ اليوميّة)، وأردفَت: (ما نسعى إليه هو تأسيس بنى تحتيّة، ترتقي عليها هذه الحِرَف وتكون هي مضموننا الفريد لصناعةِ الإبداعِ، وتحقيق صناعةٍ ثقافيّةٍ عالميّةٍ، وذلك عبر تحويلِ مسارها من ممارساتٍ فرديّةٍ وشخصيّةٍ إلى مفاهيم مجتمعيّة وشراكاتٍ مبدعةٍ). وأوضحَت أنّ مصنع نسيجِ بني جمرة قد استوحى (Leopold Banchini) تصميمه من معاملِ النّسيجِ القديمة، التي كانت تتّخذُ بيوت (البرستيّ) موقعًا لها، ومن مواقعِ المزارعِ المحيطة. إذ يستلهمُ التّصميمُ من كليهما بيئة تكوينه، متّخذًا شكلَ فضاءٍ مسقوفٍ لإيجادِ مساحاتٍ يتخلّلها الضّوء والظّلّ، وتنتظمُ فيه وحداتٍ لصنعِ النّسيج بالطّرائق التّقليديّة الأصليّة، إلى جانبِ وحداتٍ لتعليمِ هذه الحِرفة ونقلها للأجيالِ اللّاحقة، كما يُتيحُ تخصيص متجرٍ للهدايا إمكانيّات ترويج منتوجاتِ النّسيجِ وتسويقها.
وأكّدت خلال حديثها أنّ إدراج الرّؤى الثّقافيّة والفنّيّة ضمن النّتاجات الحِرَفيّة سيُساهمُ بكلّ تأكيدٍ في إثراء تلكَ الممارسات واستعادتها في سياقِ الحياةِ العصريّة عبر تقديم تصوّر جديدٍ وجماليّ لهويّتها، وهو ما يمكنُ تحقيقه من خلالِ شراكاتٍ نوعيّةٍ، وتحويل المُنتج التّقليديّ إلى هويّةٍ ثقافيّةٍ معاصرة، مشيرةً إلى التّجربةِ النّاجحة التي حقّقتها هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار عبر مبادرةِ (من أرضِ ما قبل التّاريخ) التي أعادت تطوير الهويّة البصريّة والوظيفيّة والجماليّة لصناعات الفخّار، وذلك من خلالِ إعادة تصميم القطع الفخّاريّة من مادّتها الأساسيّة (الطّين) مع إدراجِ المعادن مثل الحديد والنّحاس والفولاذ بلمساتٍ جماليّة، واقتراحِ استخداماتٍ وظيفيّة وفنّيّة معاصرة. وقد شكّلت هذه التّجربة استثناءً على مستوى صناعة الفخّار، وتدشينًا معاصرًا لهويّة هذا المنتج، الذي تمكّنت الثّقافة من تصدير فكرته وتقاسمها في العديد من المحافلِ المحلّيّة والعالميّة، من بينها: معرض (أبواب) ضمن أسبوع دبيّ للتّصميم في العام 2016م، معرض متحف موقع قلعة البحرين في العام 2017م، والمشاركة في أسبوع باريس للتّصميم عبر معرض (1000 vases) في العام 2018م.
وأشارت فاطِمة عبدعلي أنّ مثل هذه التّصوّرات الثّقافيّة قادرة على استنباطِ فرصٍ استثنائيّة لخلقِ ما هو أبعد، وذلكَ عبر الحفاظِ على التّعبيرات الثّقافيّة للهويّة البحرينيّة، وإعادةِ رفدها اجتماعيًّا واقتصاديًّا وفق اشتغالاتٍ إبداعيّة تلتزمُ بصونِ الهويّة وفرادتها من جهة، وتمنحُ الحِرَف صفات المعاصرة والتّجديد، قائلةً: (يمكننا أن نتصوّر ماذا يمكنُ للإبداعِ أن يقدّم عبر هذه الحِرَف عمومًا، وعبر النّسيجِ خصوصًا. إنّ لهذه الحِرفَة دقّة وفنّيّة عاليتين، وبالإمكانِ لهذا النّسيجِ أن يمثّل مادّةً ملهمةً للأزياءِ، المقتنيات المنزليّة والشّخصيّة، التّفاصيل الجماليّة وغيرها)، مؤكّدةً أنّ الابتكار قادرٌ على كسرِ التّصوّرات النّمطيّة الرّتيبة، ومنحِ الاستدامةِ لهذه الحِرَف، وعقّبت: (حِرفة النّسيجُ هي واحدةٌ من المنتوجات التي بإمكانها أن تحمل وسمَ علامةٍ ثقافيّةٍ تجاريّة عمرها مئات السّنوات، وحان الوقت كي نلتفت إليها ونروّج لها عالميًّا).
وفيما يتعلّق بارتباطِ هذه التّوجّهات والاستراتيجيّات بمبادئ وأهدافِ التّنميةِ المُستدامة، أشارَت المهندسة عبدعلي إلى أنّ الحِرَف والصّناعات الثّقافيّة تجسّد تمثيلات هويّة أصيلة تُعبّر عن التّنوّع الإنسانيّ والثّقافيّ في المنطقة، وهو ما تسعى دول العالمِ لحفظِه وتأصيله لدى الجماعات والشّعوب عبر العديد من المبادرات والاتّفاقيّات، من بينها اتّفاقيّة صون التّراث الثّقافيّ غير المادّيّ (2003)، اتّفاقيّة حماية وتعزيز تنوّع أشكال التّنوّع الثّقافيّ (2005) لمنظّمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلم والثّقافة (اليونيسكو). كذلكَ أشارَت إلى أنّ هذه الرّكائز الحضاريّة للتّراث الإنسانيّ غير المادّيّ تجسّدُ بنى تحتيّة عميقة لتحقيقِ أهدافِ التّنمية المُستدامة، وتحديدًا: الهدف التّاسع (صناعة وابتكار وبنى تحتيّة)، الهدف الحادي عشر (مدن ومجتمعات مُستدامة) والهدف الثّاني عشر (استهلاك وإنتاج مسؤولان). وأوضحَت أنّ ذلكَ يمثّل قاعدةً استثماريّةً للاقتصاد المستقبليّ في المنطقة، كما يساندُ عمليّة تحويل الأنظمة الاستهلاكيّة إلى منظومات وطنيّة إنتاجيّة. مبيّنةً أنّ التّوجه الاقتصاديّ عالميًّا اليوم يرتكزُ على الصّناعات الثّقافيّة برؤوس أموالٍ تبلغُ 2.25 تريليون دولار حول العالم، مع اندماجِ أكثر من 29 مليون شخص حول العالم في هذه الصّناعات، تبلغُ نسبة الشّباب منهم ممّن هم دون سنّ الثّلاثين حواليّ 19.1% وفقًا لإحدى الدّراسات المُقدّمة من إحدى الجامعات الفرنسيّة، والتي تُشير أيضًا إلى أنّ المنطقة العربيّة هي الأقلّ إنتاجًا للصّناعات الثّقافيّة. من جهتها أكّدت فاطِمة عبدعلي أنّ هذه القراءات تكشفُ عن فرصٍ استثنائيّة لا بدّ من استثمارها لتحقيقِ الرّيادة في المنطقةِ، خصوصًا وأنّ مملكة البحرين تمتلكُ مواطن ثقافيّة وتاريخيّة هي ما تلهمها حراكها وازدهارها، وأنّ تراثها اللّامادّيّ هو المضمونُ الحقيقيّ الذي بالإمكان استثماره محرّكًا للتّنمية الاقتصاديّة.
ويعتبر مصنع نسيج بني جمرة أحد مشاريع البنى التّحتيّة التي تشتغلُ عليها هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار ضمن استراتيجيّاتها لتنميةِ الحِرَف وتكريسها صناعةً ثقافيّةً وطنيّةً. حيث أعلنَت في ذاتِ المسار توجّهها لإحياءِ وإعادةِ تأهيل مدرسة المنامة الصّناعيّة الثّانويّة كي تكون حاضنةً لصناعةِ الإبداعِ في المنطقة، كما تتّجه عبر العديد من خططها للاعتناءِ بالحِرَف والصّناعات التّقليديّة، بهدفِ صونِ وإبرازِ هويّتها ودلالاتها ونتاجاتها الإنسانيّة.