حين نسمع البعض وخاصة الكبار في السن يسمون هذا الزمن بالزمن الممجوج ، لاندرك تمامًا عمق العبارة ولكن حين نفكر قليلًا تصلنا الفكرة ، وكفرد من الذين عاصروا فترة التحول فكان لهم شرف معايشة الزمن الجميل وهذا الزمن أفهم عمق العبارة وأقر بصحتها ،
فلقد كنا نستيقظ صباحًا لنشرع النوافذ وفي طفولتي كان ذلك بمثابة التواصل مع العالم الخارجي فحالما تشرع نوافذنا تتدفق الحياة إلى داخل البيت ، صوت بائع (الشريك) والمنادي على البيض واللبن ، وأصوات عجلات الدراجات وأبواق السيارات وحتى أصوات بعض الجيران والمارة .
وبعد ذهاب المداومين إلى دواماتهم تعقد الأمهات مجالس البوح وتناقل الأخبار ،بينما يقمن بالأعمال المنزلية ، فالبيت الذي يجتمعون فيه لجلسة الضحى يتم فيه قطف الملوخية أو تقميع البامية أو عجن العجين ، حتى كي الملابس ،مع تناول الشاي المنعنش والشريك والجبن.
ويجلس المسنين على مراكيزهم وغالبًا يتوسطهم المذياع ليبث لهم مايجود به قلبه ، ويتناقشون في مايسمعون ويحللون الأحداث السياسية بوعي كبير .
حتى إذا عاد المداومين وجدوا ماتم تحليله جاهزًا للتناول مع وجبة الغداء أو (شاهي) العصر،
الجديد كنانسمعه في الراديو والصحف ، وننتظر التاسعة مساءًا لنعرف ماذا يحدث في الكون ، وإذا أردنا الترفيه فإن له وقت محدد ، نتجمع حول التلفاز لنشاهد الحلقة الجديدة من مسلسلنا الذي تتحدث به الحارة وتنتظر الأحداث القادمة بشوق ، وللطرب وسماع الجديد من الأغنيات نذهب إلى مايسمى بالإستريو (محل بيع الأشرطة) .
في ذلك الوقت البعيد القريب كان الوقت منظم فللعمل وقته وللنوم وقته وللمتعة وقتها ، لذا فقد كان كلّ شيءكامل وواضح ، وتتحقق منه الغاية .
اليوم نستيقظ لنفتح جوالاتنا ونقلب أكوام الأخبار والتي فقدت مصداقيتها وأهميتها ، نقرأ المعلومة ثم نقرأ مايناقضها ، نشاهد المقطع ونتفاعل معه ثم يتضح أنه مجرد تمثيلية ، وليس هناك مواعيد ففي أي وقت نستطيع مشاهدة المسلسلات والتي فاض بها الوسط ، وتشابهت علينا ، وأصبحنا نعرف الأحداث ونستطيع التنبؤ بالنهاية ، كل شيءٍ أصبح متوفرًا بكثرة وفي كل زمان ومكان ، وبرغم اعتبار ذلك رفاهية وميزة لهذا الوقت ، إلا أنه جعل كل شيء ممجوجًا وباهتًا وتزاحمت المعلومات وتضاربت حتى فقدت مصداقيتها ، أما الأخبار فقد أصبحت( ببلاش)ليس (بكرة) بل اليوم والساعة ، ونستطيع سماع الخبر الذي نحب من الجانب الذي نريد بالصيغة التي تناسب توجهنا ، باختصار نستطيع صنع أخبارنا التي نريد ونصدقها وضاعت الطاسة .
ليلى الأحمدي
شاعرة وفنانة تشكيلية
نائبة رئيس جمعية رواق المدينة للمثقفات والأديبات