يشهد الاقتصاد العالمي منذ مطلع الألفية الثالثة تحولات كبيرة في القوى الفاعلة وتوجهاتها ونمط العلاقات. ولئن عرف القرن التاسع عشر بأنه قرن ألمانيا وسمى القرن العشرين بالقرن الأمريكي، فإن القرن الحادي والعشرين يتوقع أن يشهد تكريس الصعود الآسيوي.
تذهب كثير من الدراسات والتوقعات للاقتصاد العالمي أن يتقدم الاقتصاد الصيني خلال الأعوام القادمة مستندا على كثافة سكانية تبلغ 1.4 بليون شخص وحجم احتياطات نقدية تبلغ 500 بليون دولار ، وهو قد قفز بشكل واضح متجاوزا جميع الاقتصادات الأوربية واليابان ليحل ثانيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية في حجم الاقتصاد الكلي. استطاعت الصين عبر برامج الإصلاح الاقتصادي تشغيل قطاعات إنتاجية متعددة وتوزيع الاستثمارات على نطاق جغرافي واسع، وأصبحت قبلة للاستثمارات العالمية. ووعيا بمحورية دور الطاقة توسعت الصين في الاستثمارات الخارجية للاستكشاف والإنتاج البترولي خاصة في افريقيا، وأضاف لها هذا التمدد ادوارا أخرى سياسية في تعزيز الامن العالمي وفرض رؤاها في كثير من القضايا.
تلي الهند الصين في تقدمها العالمي، وتشكل بسكانها الذي سيتجاوز 1.3 بليون نسمة في 2020 قوة أساسية سيما وأن حجم احتياطاتها 120 بليون دولار. تحولت الهند خلال العقود الأخيرة من موطن المجاعات إلى بلد واعد اقتصاديا ينتج التكنولوجيا ويطور الأدوية زهيدة التكلفة ويتوسع في الزراعة والصناعة. بنت الهند طفرتها على الاهتمام برأس المال البشري ؛ فقد زاد الانفاق الحكومي المركزي على الخدمات الاجتماعية والتنمية الريفية من 13.4% في 2006-2007 إلى 18.5% في 2011-2012، وارتفعت حصة الخدمات الاجتماعية من 21.6% في 2006-2007 إلى 24.1% في 2009-2010 وإلى 25% في 2011-2012.
انتهجت الهند سياسة لبناء القدرات البشرية والاستثمار في التعليم العالي على مستوى عالمي، وأصبح خريجو المعهد الهندي للتكنولوجياIIT عنصرا أساسيا في وادي السيليكون، وأثمرت هذه السياسة حيث استفادت البلاد من مخزونها من العمال المهرة في صناعات ناشئة في تكنولوجيا المعلومات وأصبحت في 2011-2012 مصدر لحوالي 70 مليار دولار من مجموع عائدات التصدير. وبنت الهند صناعة أخرى هي صناعة المستحضرات الصيدلانية ولم تمنح براءات اختراع للمنتجات فحسب بل لعمليات التصنيع أيضا، وطبق نفس النموذج في بناء القدرات في صناعات السيارات والصناعات الكيميائية والخدمات التي تخترق اليوم السوق العالمي بقوة.
ولم تأت هذه النتائج من فراغ بل حرصت الحكومة على التعليم والذي يقدم مجانيا والزاميا للأطفال في الفئة العمرية 6-14 سنة، وتوخيا للإنصاف فقد ألزم القانون المدارس الخاصة بقبول 25% في صفوف طلابها من الأسر المحرومة ذات الدخل المنخفض في المجتمع ، وبالمقابل تعوض الحكومة المدارس، وقد استند القانون على أن المدارس يجب أن تكون مكانا للاندماج الاجتماعي وألا تعمل المدارس الخاصة بمعزل عن سياسات الدولة.
ستشكل احتياطات آسيا حوالي 75% من حجم الاحتياطات النقدية العالمية في 2020، وتضيف الدراسات روسيا واندونيسيا للقوى المؤثرة في الصعود الآسيوي، وإن لاحظ بعضها أن هنالك عدة محددات تقلل من التأثير الروسي ويمكن اجمالها في: تدني معدلات المواليد، التوترات الكامنة في القوقاز والجمهوريات الإسلامية، انتشار الإيدز وتدني مستوى الرعاية الصحية.
واستشعارا منها لضرورة التكامل الاقتصادي قامت الصين ، روسيا، الهند ، البرازيل وجنوب أفريقيا بتكوين منظومة البريكس وهي تجمع اقتصادي مهم يتوقع أن يعزز من الأدوار العالمية لهذه القوى الصاعدة .
تعد البرازيل إحدى القوى الصاعدة والتي تمثل نموذجا لاقتصاد تجاوز خلال سنوات قليلة محنته وانطلق يلعب أدوارا إقليمية وعالمية لضمان استقرار الاقتصاد العالمي. فقد شهدت معدلات قياسية للتضخم مطلع التسعينات بلغت ذروتها عام ١٩٩٤م حيث وصلت إلى٢٠٧٥% ، بدأت الحكومة في تنفيذ خطة لتحفيز النمو وإيقاف معدل التضخم الجامح. قامت الخطة على تثبيت سعر الصرف وتبني سياسة للانفتاح التجاري، وقد نجحت الخطة في تخفيض معدل التضخم؛ فمن ٢٠٧٥% في ١٩٩٤م إلى ٦٦% في ١٩٩٥م ثم إلى حوالي ٧% في ١٩٩٧م. شملت الخطة أيضا ترشيد وضغط الانفاق الحكومي ورفع البنك المركزي لمعدل الفائدة قصيرة الأجل لاستيعاب الصدمات الناتجة عن تراجع قيمة العملة. نجحت السياسة بشكل ملحوظ حيث انخفض معدل التضخم إلى حوالي ٣% في العام ١٩٩٨م، ولكن ومع الاضطرابات التي شهدها الاقتصاد العالمي جراء أزمة النمور الآسيوية في العام ١٩٩٧م اضطرت الحكومة البرازيلية لتعويم سعر العملة الوطنية. ومع ذلك وللمتابعة والاستمرار في تنفيذ الخطة فقد تجاوز الاقتصاد البرازيلي ازمته وانطلق بقوة لكسب الثقة وتتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتصل الى ٢٠٠ مليار دولار خلال الفترة من ٢٠٠٤-٢٠١١م ، وينمو الناتج المحلي الإجمالي لتتجاوز البرازيل ايطاليا و روسيا وتحتل المرتبة السابعة عالميا وفقا لإحصاءات البنك الدولي.
لم تلجأ الحكومة البرازيلية، تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية، للتراجع عن الاهتمام بتكوين رأس المال البشري ودعم التعليم؛ بل العكس ما حدث حيث أسهمت الاستثمارات الضخمة التي قادتها الدولة في التعليم لتحصين نتائج التنمية، وقد بدأ التحول في التعليم بتوزيع متساو للتمويل بين المناطق والولايات، ويضمن الصندوق الوطني لتطوير التعليم الابتدائي الحد الأدنى الوطني لنصيب الطالب من الانفاق في التعليم الابتدائي، وأمن برنامج ” التمويل حسب عدد الطلاب ” حافزا كبيرا لتزيد المدارس من معدلات الالتحاق بها. ونتيجة لهذا الاستثمار ارتفعت بين عامي 2000-2009 درجات تحصيل طلاب البرازيل في الرياضيات ببرنامج التقييم الدولي للطلاب 52 نقطة. أدى تطوير القدرات وبناء قطاعات للبحث والتطوير إلى بروز قطاعات صناعية ضخمة في البرازيل؛ فقد أصبحت شركة امبراير Embraer مثلا أكبر منتج في العالم للطائرات التجارية ذات 120 مقعدا، ونمت صناعات الصلب والاحذية وغيرها.
لعلك لاحظت عزيزي القارئ الكريم أن كلمة السر في قصص صعود قوى كالهند والبرازيل هي رأس المال البشري، وهذه نقطة الضعف الرئيسية في التجربة السودانية؛ فما زال انفاقنا على التعليم الأساسي يصنف من بين الأدنى افريقيا.
لقد احسنت الحكومة بالدخول في شراكات استراتيجية مع تجمع البريكس ، والأمل أن ندرس تجارب دوله ونقف على قصص النجاح الاستفادة منها ووضع خطة طموحة ليصبح السودان قوة إقليمية رئيسية خلال العقد القادم.