في الأخبار أن وزارة الثقافة الاتحادية تعد ،بالتنسيق مع اليونسكو، لوضع استراتيجية وطنية لحصر وتوثيق التراث الثقافي غير المادي. وهذا عمل جليل ومهم للحفاظ على الذاكرة الثقافية السودانية وتوظيفها في عمليات بناء الأمة وتحسين حياة الناس.
ولكي تحقق هذه المشروعات أهدافها يلزم تأسيس المنظور الذي تنطلق منه والمدى الذي يمكن أن تبلغه، وفي تقديري أن الحالة السودانية تستدعي التفكير بأفق مفتوح ومتجاوز لدور التراث الثقافي لنضمن اسهاما أكبر في تحقيق تنمية وسلام وتعايش مستدام لمكونات المجتمع السوداني.
لئن تباينت تعريفات التراث الثقافي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فقد جاءت اتفاقية اليونسكو لحماية التراث العالمي 1972م حاسمة ومحددة وجامعة مانعة للمقصود بالتراث الثقافي. حيث عددت مكوناته والتي تشمل التراث المادي الثابت والمنقول والتراث غير المادي (الشفهي)، وطالبت دول العالم بحمايته والحفاظ عليه لأنه يعبر عن التاريخ البشري بأجمعه.
يشكل التراث الثقافي المادي وغير المادي المكون الأبرز لموارد السياحة التراثية، مما دفع الدول لزيادة الاهتمام به والنظر في توظيفه كقطاع اقتصادي. وقد تطور الوعي بالدور الاقتصادي للتراث بشكل لافت خلال القرن العشرين؛ فمن سياحة وحرف تقليدية وفنون أدائية إلى منظومة متكاملة من الأنشطة الإبداعية شكلت ما بات يعرف بالاقتصاد الإبداعي Creative Economy .
يعرف الاقتصاد الإبداعي بأنه نظام مركب تتحقق قيمته الاقتصادية من التطور والإبداع ويشمل مجالات السلع والخدمات المنتجة بواسطة الصناعات الإبداعية بما في ذلك قطاعات البحث والتطوير وتنمية البرمجيات ، وقد امتد هذا المفهوم ليشمل التنمية الحضرية وتخطيط المدن وبرز هذا البعد في مساهمة الكاتب البريطاني شارلس لاندرى عندما صك مصطلح المدينة المبدعة. وقد ظهر مصطلح الصناعات الإبداعية لأول مرة في أستراليا عام 1994م حينما ورد في تقرير : (الأمة المبدعة- السياسات الثقافية للكومنولث)، وفى عام 1998م أصدرت وزارة الثقافة البريطانية وثيقة ( خرائط الصناعات الإبداعية) ( Creative Industries Mapping) وإن انتقدها البعض لتوسعها في مفهوم الصناعات الإبداعية فإنهم قد فسروا ذلك لرغبة الوزارة في التركيز على إسهامها في الاقتصاد البريطاني الأوسع بزيادة القطاعات الإبداعية وتعددها ، وقد عرفت الوثيقة الصناعات الإبداعية بأنها : تلك الصناعات التي يكون مصدرها الإبداعية الشخصية، المهارات والموهبة هذا فضلاً عن مقدرتها الكامنة لخلق الثروة والوظائف وذلك عبر بناء واستغلال الملكية الفكرية ، ويلاحظ أن هذا التعريف صنف الإنتاج الثقافي كواحد فقط من أنواع الإبداع؛ وهو في ذلك لا يختلف عن أي صناعة أخرى ما دامت قائمة على عنصر إبداعي. و قد أخذ المصطلح بعده الأوسع عندما استخدمه الكاتب البريطاني جون هوكينز في 2001م وذلك بوضعه معايير تصنيف ما أسماه الاقتصاد الإبداعي على 15 صناعة تشمل قطاعات الفنون والعلوم والتكنولوجيا ، وطبقاً لتقديراته فإن حجم القطاع الإبداعي في العالم بلغ 2,2 تريليون دولار بمعدل نمو سنوي 5% ( UNESCO,2012: 13) ، وقد وسع هوكينز المصطلح ليضم قطاع الألعاب الإليكترونية وغيرها إضافة إلى نشاطات البحث والتطوير.
تسعى فكرة الصناعات الإبداعية إلى توضيح التقارب المفاهيمى والعقلي بين الفنون الإبداعية( الموهبة الفردية) والصناعات الثقافية( النطاق الجماهيري) في إطار تقنيات إعلام جديدة وهى تجمع بين مصطلحين أقدم عمراً: الفنون الإبداعية والصناعات الثقافية.
أخذ المصطلح بعده العالمي باستخدامه بواسطة المنظمات الدولية وذلك عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 55/2 والذى يؤكد على أهمية الثقافة في التنمية ، وفى عامي 2008م و 2010م صدرت طبعتان من تقرير الاقتصاد الإبداعي في العالم المنجز بواسطة وكالات الأمم المتحدة المتخصصة ومنها اليونسكو UNESCO وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP والمنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD وقد ذهب التقريران إلى أن الاقتصاد الإبداعي لا يعد من القطاعات سريعة النمو في الاقتصاد العالمي فحسب ولكنه يتميز أيضاً بقدرته العالية في إحداث التحولات وتوليد الدخل وخلق فرص العمل وزيادة عائدات التصدير(UNESCO & UNDP, 2013: 11). واستمرارا لاهتمام المنظمات الدولية بالموضوع فقد أصدرت UNCTAD تقريراً في مايو 2013م أوضحت فيه أن حجم التجارة العالمية من السلع والخدمات الإبداعية بلغ 624 بليون دولار في 2011م وبذلك يكون قد بلغ ضعف أرقامه المسجلة في 2002م كما بلغ معدل النمو السنوي 8,8% على المستوى العالمي وزاد معدل نمو صادرات الدول النامية من السلع والخدمات الإبداعية ليصل إلى 12,1% خلال نفس الفترة.
إذن فالتراث الثقافي يعد جزءا أساسيا في هيكل الاقتصاد الإبداعي، وإذا ما نظرنا لواقعنا السوداني فنحن نملك ميزات تنافسية في موارد التراث الثقافي المتعددة والمنتشرة والتي يمكن بقليل من الترتيب توظيفها والاستفادة منها اقتصاديا لتحريك المجتمعات المحلية وتوليد الوظائف وتعزيز سلسلة القيمة للسلع والخدمات.
ولئن بدأنا تأسيس الاقتصاد الإبداعي بالتراث الثقافي فهو لا يقتصر عليه، بل يمتد ليشمل صناعة السياحة وقطاع الحرف والمصنوعات التقليدية والتخطيط الحضري والفنون الأدائية وغيرها من أنشطة تتميز بتوسع قاعدة المستفيدين منها وقدرتها على تعزيز الترابطات الخلفية مما يفتح بابا يخرج منه الاقتصاد السوداني للغة القرن الحادي والعشرين متجاوزا تقليديته وأثقال الريع التي أقعدته عن اللحاق بالأمم.
د. علي محمد عثمان العراقي