مسقط :العمانية
صدر عن وزارة التراث والثقافة أخيرا ثلاثة إصدارات مهمة ضمن سلسلة /التراث الأثري في عُمان/ باللغة الإنجليزية تتناول عناصر مختلفة من مجالات التراث الثقافي المتنوعة.
تهدف سلسلة /التراث الأثري في عُمان/ إلى تلبية احتياجات المتخصصين والباحثين والمهتمين، وتزويد القارئ بمادة علمية تغطي مواضيع شتى حول الآثار والتراث في السلطنة، وهي حصيلة العديد من المشاريع المهمة التي تدعمها وزارة التراث والثقافة على مدى العقود المنصرمة وتعتزم الوزارة إصدار ما لا يقل عن 14 كتابًا ضمن هذه السلسلة بالتعاون مع عدد من الخبراء المختصين في الآثار والتراث الثقافي. وركزت الإصدارات الثلاثة على المسوحات والتنقيبات الأثرية التي جرت في محافظة ظفار ومواقع الصفا ودبا الأثرية ومواقع أخرى مرتبطة بتجارة النحاس بالإضافة إلى الأعمال الأثرية في ولاية أدم.
ويحمل الإصدار الأول عنوان /ظفار عبر العصور: المشهد البيئي والأثري والتاريخي/ للمؤلفين الدكتور لين نيوتن والدكتور جوريس زارينس، يتناول التطور التاريخي لظفار وارتباطه بالسمات البيئية التي يتميز بها هذا الجزء المهم من شبه الجزيرة العربية، حيث تقع ظفار في منطقة بيئية مميزة برياح المونسون الموسمية جعلت من المنطقة موطنا للعديد من النباتات وأشهرها شجرة اللبان والتي لعبت دورًا هامًا في تاريخ المنطقة.
وبعد أن تطرق الإصدار إلى الخصائص البيئية لظفار وما شكلته من أهمية لسكان المنطقة، فإن الفصول اللاحقة تصف الماضي المميز والضارب في القدم للمنطقة، حيث تم العثور فيها على أقدم الأدلة الأثرية للاستيطان البشري في شبه الجزيرة العربية، وهذا الاكتشاف هو عبارة عن أدوات حجرية تعود إلى العصر الحجري السفلي القديم حوالي /5ر1/ مليون سنة من الآن.. كما تعد المنطقة موطنا للمتحدثين باللغة العربية الجنوبية الحديثة منذ حوالي /000ر15/ سنة من الآن.
ويغطي هذا الإصدار بصورة مفصلة أحد أهم الاكتشافات الأثرية وهو موقع البليد الأثري أو ما يسمى سابقًا بظفر ومساهمته في فهم حركة التبادل الثقافي والتجاري بين البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي في العصور القديمة والفترة الإسلامية المبكرة، حيث يُعد البليد منذ القرن السابع الميلادي ولغاية وصول البرتغاليين في عام 1504م أكبر المدن في ظفار والتي كانت لها الهيمنة السياسية والاقتصادية على بقية المدن الأخرى.
ووصف المؤلفون الذين نفذوا مباشرة معظم العمل الميداني المذكور في المجلد في العديد من الفصول المخصصة لكل فترة من الفترات التي مرت بها المدينة بالتفصيل والمعالم المختلفة التي اكتشفوها، وكيف تم تفسيرها في ضوء المصادر التاريخية المعروفة، بما في ذلك الرحالة والوثائق التاريخية والسجلات التجارية.. كما يقدم الإصدار بشكل عام وصفا شاملا وواضحا للتطورات الثقافية في ظفار، مما يسمح للقارئ أن يفهم كيف أسهمت هذه التطورات في أهمية السلطنة التاريخية.
أما الإصدار الثاني فجاء بعنوان /ترويض الصحراء الكبرى: أدم في عصر ما قبل التاريخ في عُمان/ للمؤلفين الدكتور جيوم جيرنيز والدكتورة جيسيكا جيرود.
ويُعد هذا الإصدار حصيلة لنتائج المشروع الأثري الفرنسي والذي امتد لفترة طويلة في واحة أدم، حيث يصف مدى التكيف الثقافي في ذلك النطاق البيئي على حدود صحراء الربع الخالي الكبرى في الفترة منذ العصر الحجري القديم حتى العصر الحديدي.
وتقوم واحة أدم بدور محوري في التفاعل بين السكان المستوطنين والرحل (البدو) كونها تقع على أطراف صحراء الربع الخالي، ومع ذلك لم يكن يُعرف الكثير عن تأسيسها والتطورات المبكرة فيها حتى قامت وزارة التراث والثقافة بتكليف البعثة الفرنسية بالقيام بمسوحات ودراسات شاملة في عام 2006م، ويتضمن هذا الإصدار نتائج التنقيب والبحث في السنوات العشر الأولى التي قامت بها البعثة في وسط عمان.
ويتألف الإصدار من تسعة فصول كتبها المؤلفون بالتعاون مع العديد من المختصين المشاركين بشكل مباشر في البحث، وبعد أن قدم الإصدار لمحة تاريخية ومنهجية، تم عرض نتائج الدراسات الجغرافية والجيولوجية في المنطقة بشكل تفصيلي من أجل تزويد القراء بأسس لفهم مدى “ترويض” الإنسان للمنطقة رغم وجودها على هامش الصحراء.
وتبدأ بعد ذلك فصول الكتاب بوصف تفصيلي ودقيق للأدلة الأثرية التي تم العثور عليها في المنطقة من مواقع العصر الحجري القديم، ومستوطنات العصر الحجري الحديث، ومدافن ومباني من العصر البرونزي المبكر والوسيط وأماكن العبادة من العصر الحديدي، ويركز بشكل خاص على وصف مقابر العصر البرونزي التي تم العثور عليها في مقبرتين منفصلتين، بما في ذلك جميع اللقى المدفونة فيها والتي ربطت أدم بتلك التغيرات الثقافية التي شهدتها شبة الجزيرة العُمانية خلال ما يسمى بفترة أم النار ووادي سوق في الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد.
ويولي هذا الإصدار اهتماما خاصًا بدور العبادة في العصر الحديدي والتي تم العثور عليها في جبل المضمار، حيث يعد هذا الاكتشاف أحدث الاكتشافات الأثرية المذهلة التي قام بها الفريق الفرنسي. وتحتوي هذه المباني الغامضة على نُسخ متماثلة مصغرة لأنواع مختلفة من الأسلحة النحاسية، بما في ذلك الأقواس وجعبتا سهام وجميعها سليمة. ويُعد هذا الاكتشاف فريدا من نوعه ليس فقط في عمان، ولكن في جميع أنحاء العالم حيث جذب انتباه وسائل الإعلام الدولية المرموقة في مجال علم الآثار.
وقبل أن يُختتم الكتاب بسلسلة من الاقتراحات لتطوير مستقبل الأبحاث الأثرية والتاريخية في منطقة أدم، تضمن الإصدار أيضا سردًا للدراسات الإثنوغرافية وتقنيات إدارة مياه الأفلاج التقليدية في فلج المالح في واحة أدم.
وجاء الإصدار الثالث بعنوان /مجان – أرض النحاس. التعدين في عصور ما قبل التاريخ في عُمان لمؤلفه الدكتور كلاوديو جياردينو، ويتناول وصفًا للبحث الذي أجراه المؤلف لإعادة بناء معمل صهر النحاس في سلطنة عُمان خلال العصر البرونزي والعصر الحديدي. حيث ارتبط تطور حضارة ما قبل التاريخ في عُمان ارتباطا وثيقا باستغلال رواسب النحاس الغنية في جبال الحجر وتحويلها إلى معدن ثمين.
وكما ذُكر في النصوص المسمارية لبلاد الرافدين وبفضل توافر هذه المادة الخام الثمينة أصبحت عُمان واحدة من الحضارات الكبرى للمنطقة بين وادي السند والبحر الأبيض المتوسط خلال العصر البرونزي.
ويبدأ هذا الإصدار بسردٍ تفصيليٍ لدراسة صخور الأفيوليت في السلطنة وما تحتويه من معادن متنوعة، وتتيح الفصول الأولى للقارئ الفرصة للتعرف على الأدوات النظرية والمنهجية الأساسية اللازمة للفهم الصحيح لطريقة البحث القديمة عن المعادن، وكما أن نتائج التجارب المختلفة تم ذكرها في الفصول الأخرى، وبعد وصف تاريخ البحوث الأثرية عن المعادن القديمة في البلاد وذكر النصوص المسمارية التي تحدثت عن نحاس /مجان/، وهو الاسم الذي كان يطلق على شبه جزيرة عُمان في بلاد ما بين النهرين، انتقل المؤلف لعرض أقدم دليل تم اكتشافه في عُمان على الأنشطة المعدنية في مواقع تعود إلى نهاية العصر الحجري الحديث، منذأكثر من خمسة آلاف سنة.
أما في الفصول التالية فيصف الإصدار بالتفصيل التقنيات المتطورة المكررة لاستخراج وتحويل المعادن النحاسية إلى معدن وفي نهاية المطاف تستخدم لإنتاج أقوى وأكثر الأدوات كفاءة في بداية العصر البرونزي المبكر، وقد تطورت هذه الأساليب في العصر الحديدي والذي يتجلى في الأدوات والأواني والحلي الرائعة التي تم اكتشافها في مواقع دبا وعقدة البكرة والتي تم مسحها أخيرا من قبل وزارة التراث والثقافة بالتعاون مع فرق من الخبراء الدوليين منهم مؤلف هذا الإصدار، بالإضافة إلى العرض التفصيلي للأدلة الأثرية يضُم هذا الكتاب نتائج مئات من التجارب المثمرة التي قام بها المؤلف على مدى العقود الماضية في السلطنة والتي أسهمت في فهم مستوى التعقيد الذي توصل إليه علماء المعادن القديمة في عُمان من خلال تطوير تقنيات إنتاج سبائك معينة للحصول على أدوات وحلي مع تعزيز خصائصها المادية وفقا لاستخداماتها المحددة.