عمّان – العُمانية
يستخدم التشكيلي الأردني خلدون الداود الأسلوب التعبيري التجريدي في رسم الأجساد والوجوه (البورتريه)، محاولًا في كل لوحة ترك انطباع حسي قوي لدى المشاهد يتحقق من خلال البعد البصري الذي يعتني بالألوان والخطوط والتشكيلات المغايرة للمألوف.
“وجوه” الداود في معرضه المقام بمتحف بيريديس (Pierides Museum) في لارنكا/ قبرص، تبدو في غالبيتها ظلالًا سوداء لا ملامح فيها، غير أن الأجساد تتخذ مواضع حركية موحية، فهي قد تظهر نائمة أو سابحة في فضاء لوني عميق وقوي، أو شاردة تنظر باتجاه واحد كما لو أنها تتأمل أو تفكر، أو تنظر للأمام كمن يبحث عن مخرج، أو تجلس بهدوء على كرسي يتشكل ظهره من جسد آخر.
ويمكن التدليل على ذلك من خلال اللوحة التي تصور رجلًا يجلس على جانب من الكرسي وامرأة تجلس على الجانب الآخر، في إشارة إلى التكامل بين المرأة والرجل وأنهما يساندان بعضهما بعضًا، وكذلك في لوحة المرأة التي تمسك نسخة من وجهها وتنظر إليها في إشارة إلى ثنائية الوجه والقناع.
في هذه الوجوه المظللة بالأسود، يشتغل الداود، مؤسس ومدير رواق البلقاء للفنون، على الخلفية المحيطة بها، فهي ذات ألوان حارة وقوية، وتحمل العديد من الرموز التي تؤكد الحالة النفسية للوجه والجسد المرسوم، مع خلفيات لونية هادئة من بقع وظلال وضوء وتشكيلات هندسية متنوعة توازن بين الفراغ والكتلة، وتراعي قواعد البناء الفني من حيث النسب، وتراهن على قوة الخط في التعبير والرسم المباشر لما يحسه الفنان لحظة إمساكه بفرشاته.
وفي الوجوه التي يمكن أن تظهر ملامحها، تبدو تلك الملامح ذات مسحة كاريكاتورية وتقترب من أن تكون متراكبة ومختلطة؛ بعيون جاحظة وشفاه غليظة وأنوف ممطوطة، لذلك تملك طاقة كبيرة في تحريك المشاعر واستفزازها.
وتمتاز وجوه خلدون الداود كذلك بحيويتها وبساطتها، إذ يشكل الفنان لوحاته من خطوط بسيطة تقترب من العفوية والتجريد، ويستخدم ألوانًا مدروسة مكمّلة للرسم لا تشتت الانتباه وغير متكلفة ومعقدة، حيث تتلاعب التقنيات التي يستخدمها بالحبر وفرشاة الألوان كما لو أنها تعود بنا إلى منبع فطري طفولي يقبع داخل الفنان ويتجسد لوحةً بين أنامله.
تستدعي لوحات الداود في معرضه كل المعاني التي ترتبط بالوجوه وبأقنعتها وتحولاتها، فالوجوه تقول الكثير من خلال حركاتها وإيماءاتها، وهو ما تلتقطه فرشاة الفنان وتعبّر عنه، إذ يقول حول ما يحسّه خلال لحظة إمساكه بفرشاة الرسم: “أرى نفسي شخصًا خُلق ليبني ويعمر، ويعيش ليجعل الحياة زاهية باللون، ومزدهرة بالحرف، ومزدهرة بالكتب”.
وجوه الداود “تأخذنا إلى روافد الحقيقة، على نحو من قلق الألوان التي تتصارع مع نقاط جمالية لتسحق بشاعة العالم” كما يقول الفنان والناقد التشكيلي حسين دعسة.. وجوه تسكنها حكايات وأسرار تشكلها وتتشكل منها، وهي تجسد حالة وجدانية مليئة بالطاقة والحيوية، وتحمل أحاسيس وهواجس تعبّر عن صميم التكوين الانساني، كالشجن والأمل، والتراجع والإقدام، والخوف والأمان.